Menu Close
kanisati030324

نشرة كنيستي

نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.

أُنقُر على الملف لتصفُّح نشرة كنيستي

كما يمكن قراءة النص الكامل في المقطع أدناه.

الأحد 3 آذار 2024            

العدد 9

أحد الابن الشّاطر

اللّحن 6- الإيوثينا 6

أعياد الأسبوع: *3: أحد الابن الشّاطر، الشّهداء افتروبيوس وكلاونيكس وباسيليكوس *4: البارّ جراسيموس النّاسك في الأردنّ *5: الشّهيد قونن، البارّ مرقس النَّاسك
*6: القدّيسين الإثنين والأربعين شهيدًا الَّذين في عموريَّة، البارّ أركاديوس *7: الشُّهداء أفرام ورفقته أساقفة شرصونة، البارّ بولس البسيط *8: القدّيس ثيوفيلكتس أسقف نيقوميذيَّة *9: سبت الأموات، القدِّيسين الأربعين المستشهدين في سبسسطية.

كلمة الرّاعي

زمن الخلاعة وحرب التّوبة

" أُهربوا من الزِّنى..." (1 كو 6: 18)

الإنسان يعيش في داخله حربًا لا منظورة بين الخير الَّذي يريده والشّرّ الَّذي لا يريده (راجع رو 7: 9). الخير مصدره الله وكلمته والشّرّ مصدره الشِّرِّير وأهواء الإنسان. ما يتصيِّد به الشِّرّير العقل هو فكرة السّعادة الَّتي يربطها بالمادّيَّات وأوّلها "شهوة الجسد" (1يو 2: 16). جسدانيَّة الإنسان تشدُّه نحو ترابيّته أي الملذّات المحسوسة، وهذه ترتبط بالمال الَّذي هو أهمّ وسيلة لتأمينها، وبوجود المال يظنّ الإنسان أنّ له سلطة على الآخَرين إذ يعتقد أنّ كلّ شيء يُشرى بالمال. بناء عليه، يوهمنا إبليس أنّ طريق السَّعادة يمرّ باقتناء المال لكي نقتني بواسطته كلّ ما يُسعدنا، وهكذا يعتقد الإنسان أنّ المال يحقِّق له السّعادة المَنشودة في العالم الّتي هي "شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظّم المعيشة" (1 يو 2: 16)، لذلك هؤلاء "الَّذِينَ يَذْهَبُونَ وَرَاءَ الْجَسَدِ فِي شَهْوَةِ النَّجَاسَةِ، وَيَسْتَهِينُونَ بِالسِّيَادَةِ (...) فَكَحَيَوَانَاتٍ غَيْرِ نَاطِقَةٍ، طَبِيعِيَّةٍ، مَوْلُودَةٍ لِلصَّيْدِ وَالْهَلاَكِ، يَفْتَرُونَ عَلَى مَا يَجْهَلُونَ، فَسَيَهْلِكُونَ فِي فَسَادِهِمْ آخِذِينَ أُجْرَةَ الإِثْمِ ..." ( 2بط 2: 10 – 13).

*          *          *

في إنجيل هذا الأحد الثّاني من زمن التّريودي التّحضيريّ لدخولنا في الصَّوم الكبير المقدَّس، تتلو علينا الكنيسة المقدَّسة إنجيل "الابن الشَّاطر"، الشَّاب الصَّغير الَّذي ظنّ أنّه بالمال يستطيع أن يشتري سعادته إذ "سافر إلى بلدٍ بعيدٍ وبذَّر مالَه هناك عائشًا في الخلاعة (ζῶν ἀσώτως)" (لو 15: 13)، أي "بإسرافٍ شديد"، بتبديد وتبذير. كيف صرف أموال أبيه؟ نفهم من الابن الأكبر أنّ الابن الأصغر صرف أموال الأب "مع الزَّواني"، حرفيًّا "اِلْتَهَمَ معيشة الأب مع البغايا" (ὁ καταφαγών σου τὸν βίον μετὰ πορνῶν). مع أنّ الابن الأصغر ظنّ أنّه أخذ حصَّته من الميراث، إلّا أنّ هذا الميراث هو للأب طالما أنّه حيّ وأساسًا هو له لأنّه منه. الابن الأصغر لم يستهلك ما له بل ما لأبيه لكي يعيش أخيرًا مع الخنازير. أي أنّ الإنسان الَّذي يستخدم المال أي نِعَمَ الله المُعطاة له لأجل إشباع لذّة جسده سيؤول به الأمر إلى الافتقار ليس فقط من النّعمة بل أيضًا سيخسر إنسانيّته إذ يحيا حياة بهيميَّة ونجسة. صورة الله ومجده في الإنسان يضعها هذا الأخير في الوحول ويشوّهها ويلبسها لباس النّجاسة.

*          *          *

الزَّمن الَّذي نعيشه صارت الخلاعة فيه رمز السّعادة، إذ تُصَوَّر السّعادة على أنّها حَصْدُ ملذّاتِ الجسد بأيّة طريقة ممكنة، سواء عبر الجنس أو الأكل والشّرب والتّرفيه بمختلف أنواعه. من هنا، صارت المتعة رمز السَّعادة، وهذا هو الطُّعْمُ الَّذي اصطاد به الشَّيطان الابن الضّال، وهو نفس الطّعم الَّذي ما زال البشرُ يُصطادون به حتّى الآن وربّما إلى نهاية هذا الزّمان. لذلك، صرنا نسمع ونقرأ ونرى أنّ التَّسويق للسَّعادة يرتبط باللّذة، واللَّذة ليس لها ضوابط فيما بعد لأنّ الرّادع الدّينيّ أُزيل من حسابات الشّعوب "المتحضِّرة" على مستوى قوانين الدّول لكنّه باقٍ على الصّعيد الشّخصيّ عند المؤمنين الَّذين عليهم أن يجاهدوا ويسيروا عكس تيّار الحياة ومفاهيمها الجديدة. هذا الانحراف طال بلادنا ومنطقتنا بسبب العولمة، والفساد الأخلاقيّ يزداد يومًا بعد يوم. الشَّبيبة المؤمنة تُعاني حربًا ضروس على مبادئها وطريقة عيشها، والعائلات تتخبّط بمفاهيم منحرفة تُسَوَّق على أنّها مبادئ علميّة في التّربية، كما أنّ الخيانات الزَّوجيَّة والطَّلاقات لم تعد أمورًا يستغربها النّاس أو يخجلون منها. المؤمنون يعيشون في حرب شعواء تُشنُّ عليهم لأنّهم يريدون التزام الحياة في الإيمان والكنيسة...

*          *          *

أيُّها الأحبَّاء، الحياة المسيحيَّة ليست سهلة العيش، خاصّة في هذا الزّمان، وبالحقيقة في كلّ زمان لها تحدّياتها. في الزّمن الحاضر مطلوب منّا الشّهادة لإيماننا بكلّ ما أوتينا من قوّة والتزام لأنّ الحرب هي من الخارج والدّاخل. من الخارج بسبب ما يأتينا بواسطة العالم من أفكار بالإضافة إلى تغيّر المبادئ وأنماط الحياة وغلبة الاستهلاك في كلّ شيء. أمّا من الدّاخل فهي بسبب أفكارنا وأهوائنا الّتي لا يمكننا أن نحاربها ونغلبها إلّا بالصَّلاة والصَّوم والتَّوبة والالتصاق بالرّبّ عبر كنيسته، وتضامننا كجماعة مؤمنة لنشكّل سويَّة قوَّة فاعلة لها تأثيرها في نقل الحقّ والإيمان وتجلّياتهما على صعد الحياة المختلفة في البيت والكنيسة والمجتمع والوطن.

أساس غلبتنا للعالم هو انتصارنا على روح الشَّهوة والخلاعة أي روح الزّنى المستشرية في هذا الزّمان والّتي تهاجم الإنسان في أفكاره وجسده، كما في ما يرى ويسمع ويشاهد في الحياة المعاصرة لا سيّما في وسائل التّواصل. التّوبة هي منهجنا في حرب العفَّة، وقوّتنا من الله تأتينا عند إقرارنا بضعفنا أمامه. تجربة الابن الشّاطر حاضرة ولَجُوجَة في كلّ شخص، لكن ليس علينا أن نصل إلى الحضيض الَّذي وصل إليه هذا الأخير لنقتني رحمة الله. فلنصرخ من كلّ قلوبنا إلى الله الرّحيم: "اللَّهمّ ارحمني أنا الواقع قبل أن أهلك بالكلّيّة لأنّي عليك اتَّكَلْت".

فينا يُغلَب العالم بالمسيح، وبنا يَغلب المسيح في العالم، لكي نكون في المسيح باكورة خليقة الله الجديدة بواسطة حياة التَّوبة المستمرَّة إلى أن يرتاح الجسد في الرُّوح والرُّوح في الجسد بسيادة كلمة الله في قلوبنا...

"وَإِنَّمَا أَقُولُ: اسْلُكُوا بِالرُّوحِ فَلاَ تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ الْجَسَدِ" (غل 5: 16).

ومن له أذنان للسَّمع فليسمع...

+ أنطونيوس

متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما

طروباريّة القيامة (باللّحن السّادس)

إنَّ القوّاتِ الملائكيّةَ ظهروا على قبرك الموَقَّر، والحُرّاسَ صاروا كالأموات، ومريمَ وقفت عندَ القبر طالبةً جسدَك الطَّاهر؛ فسَبيْتَ الجحيمَ ولم تُجرَّب منها، وصادفتَ البتولَ مانحًا الحياة. فيا مَنْ قامَ من بين الأمواتِ، يا ربُّ المجدُ لك.

قنداقُ أحدِ الابنِ الشّاطِر (باللَّحن الثَّالث)

لَـمَّا عَصَيْتُ مَـجْدَكَ الأَبَوِيَّ بِـجَهْلٍ وَغَبَاوَةٍ، بَدَّدْتُ فِي الـمَسَاوِئِ الغِنَى الَّذِي أَعْطَيْتَنِيهِ أَيُّهَا الآبُ الرَّأُوفُ. لِأَجْلِ هَذَا أَصْرُخُ إِلَيْكَ بِصَوْتِ الاِبْنِ الشَّاطِرِ هَاتِفًا: أَخْطَأْتُ قُدَّامَكَ فَاقْبَلْنِي تَائِبًا، وَاجْعَلنِي كَأَحَدِ أُجَرَائِكَ.

الرِّسالة (1 كور 6: 12-20)

لتكُن يا ربُّ رَحْمتُكَ علينا كمِثلِ اتّكالِنا عليك

ابتهجوا أيُّها الصدّيقون بالربّ

يا إخوة، كلُّ شيءٍ مُباحٌ لي ولكن ليس كلُّ شيءٍ يوافق. كلُّ شيءٍ مُباحٌ لي ولكن لا يتسلَّطُ عليَّ شيءٌ. إنَّ الأطعمةَ للجوفِ والجوفَ للأطعمة وسيُبيدُ الله هذا وتلك. أمَّا الجسدُ فليسَ للزِّنى بل للرَّبِّ والرَّبُّ للجسد. واللهُ قد أقام الرّبَّ وسيُقيمنا نحن أيضًا بقوَّته. أما تعلمون أنَّ أجسادَكم هي أعضاءُ المسيح؟ أفآخذُ أعضاءَ المسيح وأجعلُها أعضاءَ زانيةٍ؟ حاشا. أما تعلمون أنَّ من اقترنَ بزانية يصيرُ معها جسدًا واحدًا؟ لأنَّه قد قيلَ: يصيران كلاهما جسدًا واحدًا. أمَّا الَّذي يقترنُ بالرَّبِّ فيكون معه روحًا واحدًا. أُهربوا من الزِّنى. فإنَّ كلَّ خطيئةٍ يفعلها الإنسانُ هي في خارج الجسد، أمَّا الزَّاني فإنه يخطئُ إلى جسدِه. ألستم تعلمون أنَّ أجسادَكم هي هيكلُ الرُّوح القدس الَّذي فيكم، الَّذي نلتموه من الله، وأنَّكم لستم لأنفسكم لأنَّكم قد اشتُريتم بثمن؟ فمجِّدوا الله في أجسادِكم وفي أرواحِكم الَّتي هي لِلَّه.

الإنجيل(لو 15: 11-32)

قال الرَّبُّ هذا المثل: إِنسانٌ كان له ابنان. فقال أصغرُهما لأبيه: يا أبتِ، أَعطني النَّصيبَ الَّذي يخصُّني من المال. فقسم بينهما معيشته. وبعد أيَّام غيرِ كثيرةٍ جمعَ الاِبنُ الأصغرُ كلَّ شيءٍ لهُ وسافر إلى بلدٍ بعيدٍ وبذَّر مالَه هناك عائشًا في الخلاعة. فلمَّا أنفقَ كلَّ شيءٍ، حدثت في تلك البلدِ مجاعةٌ شديدة، فأخذَ في العَوَز. فذهب وانضوى إلى واحدٍ من أهل ذلك البلد، فأرسله إلى حقوله يرعى خنازير. وكان يشتهي أن يملأ بطنه من الخرنوب الَّذي كانت الخنازيرُ تأكله فلم يعطهِ أحد. فرجَع إلى نفسه وقال: كم لأبي من أُجراءَ يفضُلُ عنهم الخبزُ وأنا أهلِك جوعًا! أقوم وأمضي إلى أبي وأقول له: يا أبتِ، قد أخطأتُ إلى السَّماء وإليك، ولستُ مُستحقًّا بعدُ أن أُدعى لك ابنًا، فاجعلني كأحد أُجَرائك. فقام وجاء إلى أبيه. وفيما هو بعدُ غيرُ بعيد، رآه أبوه فتحنَّن عليه وأسرع وألقى بنفسه على عُنقه وقبَّله. فقال له الاِبنُ: يا أبتِ قد أخطأتُ إلى السَّماء وأمامك ولستُ مُستحقًّا بعدُ أن أُدعى لك ابنًا. فقال الأبُ لعبيده: هاتُوا الحُلَّة الأولى وأَلبِسوه، واجعلوا خاتَمًا في يده وحذاءً في رجليه، وأْتُوا بالعجل المُسمَّن واذبحوه فنأكلَ ونفرحَ، لأنَّ ابني هذا كان مَيْتًا فَعاش، وكان ضالًّا فوُجد. فطفقوا يفرحون. وكان ابنُه الأكبر في الحقل. فلمّا أتى وقرُب من البيت سمع أصوات الغناء والرَّقص. فدعا أحدَ الغلمان وسأله: ما هذا؟ فقال له: قد قَدِم أخوك فذبح أبوك العجل المسمّن لأنّه لقيَه سالمًا. فغضب ولم يُرِدْ أن يدخل. فخرج أبوه وطَفِقَ يتوسّل إليه. فأجاب وقال لأبيه: كم لي من السِّنينَ أخدمُك ولم أتعدَّ لك وصيَّة فلم تعطني قطُّ جَدْيًا لأفرح مع أصدقائي. ولمّا جاء ابنك، هذا الَّذي أكل معيشتك مع الزَّواني، ذبحت له العجل المُسَمَّن. فقال له: يا ابني، أنت معي في كلِّ حين، وكلُّ ما هو لي فهو لك. ولكن كان ينبغي أنْ نفرحَ ونُسَرَّ لأنَّ أخاك هذا كان مَيْتًا فعاش وكان ضالًّا فوُجِد.

حول الإنجيل

نسمّي هذا اليوم أحد الابن الشّاطر، لكن لنتذكّر أنّ المثل لا يحكي قصّته فقط، فنقرأ في بدايته: "إنسانٌ كان له ابنان". ورغم أنّهما يبدوان للوهلة الأولى مختلفين، إلّا أنّهما في الواقع متشابهان تمامًا. يبدو أنّ كلاهما قد أحبّ في البداية أباه حبًّا حقيقيًّا. الابن الأصغر أخذ حصّته من الميراث وترك بيته الأبويّ مبدّدًا المال على حياةٍ صاخبة. ومع أنّ الابن الأكبر بقي دون أن يغادر، تبيّن أنّ نيّته الحقيقيّة في قلبه لم تكن مختلفةً عن الَّتي لأخيه، ألا وهي الطّمع بميراث أبيه، فقد اعتراه المرارة والحسد لأنّه لم يُعطَ جِدْيًّا ليفرح مع أصدقائه. بالتّالي هو أيضًا ابتغى الميراث وملذّات الدّنيا. لذلك لم يُرِد في النّهاية الدّخول إلى فرح بيته الأبويّ بسبب قلبه البارد والمظلم.

هذا الأمر يشكّل خطرًا كبيرًا علينا، خاصّةً نحن المسيحيّين. نستطيع أن نخبّئ محبّة الذّات تحت قناع الطّاعة للكنيسة والتّقوى الخارجيّة. نستطيع أن نهيم في هذا العالم كلّه ونحن جالسون في وسط الكنيسة. نستطيع بسهولةٍ أن نزدري وندين الَّذين اختاروا علانيّةً ترك المنزل الأبويّ، ونحن من يخسر أكثر منهم.

قد يكون أحيانًا من الأفضل أن نتشبّه بالابن الأصغر الجائع في حظيرة الخنازير لأنّه تاب أخيرًا على أن نتشبّه بالابن الأكبر الَّذي لا يريد أن يحبّ أباه رغم أنّه يعيش ظاهريًّا في منزله. قد يكون أحيانًا أسهل علينا أن نرجع إلى أنفسنا وسط بؤس العالم وفراغه من أن يتمّ ذلك تحت مظهر التّقوى الخادع.

لن نعود إلى الدّيار سوى عندما نعي أنّنا تائهون، ولن نجد طريق الهُروب سوى بكره اللَّذة عبر اختبار الألم المـُعذِّب الكامن في اللّذّة الَّتي اخترناها. الدّواء الوحيد الشّافي هو تذوّق مرارة العالم الَّذي سمّمناه نحن بخطايانا حتّى نطلب الشّفاء بالتوبة إذ نطلب حلاوة الله. يقول الأنبا دوروثيوس: "المصاعب الَّتي تأتي من عدم الطّاعة سوف تعلّم الإنسان السّكون الَّذي يأتي من الطّاعة كما يقول النّبيّ: 'يوبّخك شرّك' (إرمياء 19:2)".

لذلك، خلال هذه الفترة الصّياميّة الآتية، وخلال حياتنا كلّها، لا نيأسنّ عندما نرى خطيئتنا وضعفنا وعندما نعرف عن طريق التّجربة المرّة مأساة ضلال طريقنا بشكلٍ جذريّ. لا نتحيّرنّ ولا نسألنّ: "أين هو الرّبّ؟" إنّه يسير طريق الغربة بجانبنا، فهو لم يرسلنا إلى هناك كي نفنى بل لكي نسير معه على الطّريق الوحيد المؤدّي إلى البيت الأبويّ.

الطَّاعة هي الحياة

 

"وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ" (في 2: 8).

إنَّ الرَّبَّ يسوع هو مثالنا الأوَّل في الطَّاعة، الطَّاعة الآتية من المحبَّة، محبَّة الله الآب ومحبَّته لكلِّ أبنائه، هكذا الطَّاعة أعطتْ الحياة لكثيرين.

مَغبوطٌ مَنْ اقتنى وملك الطَّاعة المحقّة البريئة من الرِّياء فإنَّه يُشابِه معلِّمنا الصَّالح الَّذي صار مطواعًا إلى الموت، فبالحقيقة مغبوطٌ مَن فيه الطَّاعة فإنَّه يتَّحد بالكلّ بالمحبَّة (القدّيس أفرام السّوري).

وجاء في رسالة القدّيس بولس إلى العبرانيّين: "وَإِذْ كُمِّلَ صَارَ لِجَمِيعِ الَّذينَ يُطِيعُونَهُ، سَبَبَ خَلاَصٍ أَبَدِيٍّ" (عب 5: 9). فبالآلام والصَّليب كمل بالمجد الأبديّ فصار الرَّبّ يسوع سبب خلاصٍ أبديّ، لكن ليس لكلّ إنسان بل للَّذين يطيعونه ويُخضعون إرادتهم الإنسانيّة لمشيئة الله، ويحتملون الآلام الَّتي سمح بها الله بشكر (كو 2: 7) وبدون تذمُّر أو ارتداد عن الإيمان، هذا كان جواب الرُّسُل عندما منعهم رئيس كهنة اليهود من البشارة بالرَّبِّ يسوع إذ قالوا له: "يَنْبَغِي أَنْ يُطَاعَ اللهُ أَكْثَرَ مِنَ النَّاسِ" (سفر أعمال الرُّسُل 5: 29)

يقول القدّيس أفرام كاتوناكيا: "تجلب الطَّاعة كلَّ شيء، تجلب النِّعْمَة، عصيانٌ صغير للأب الرُّوحيّ يطرد النِّعمة، تُشفى كلّ الأهواء شيئًا فشيئًا بالطَّاعة، لا الصَّوم ولا الكهنوت ولا الجهادات النُّسكيّة تُخَلِّصْ فقط الطَّاعة للأبّ الرُّوحيّ بتمييز"، إذ إنّ طاعة الأب الرُّوحيّ ترمز إلى طاعة الرَّبّ يسوع وتعاليمه الَّتي هي سبب الخلاص لنفوسنا.

وليس غريب أن تكون الطَّاعة أوَّل النُّذور الرُّهبانيّة لأنّها هي أساس الرّهبنة، وهي أوّل جهادٍ للرّاهب، لأنّها مبدأ كلّ نموّ روحيّ. إنّها نوع من شهادة غير دمويّة، أن يبيع الإنسان مشيئته الخاصّة باستمرار، ليطيع أبًا روحيًّا يُطيع بدوره تقليد الكنيسة، وإيمانها، وقوانينها. ففي هذه الطَّاعة إنكاٌر لمحبّة الذّات، وتحرّرٌ من الأنانيّة البغيضة "إذا لم يكن لديك طاعة، لن تملك الصَّلاة". عالمين" أنّ الله لا يترك نفسًا أَسْلَمَتْ أمورها إلى الطَّاعة من أجله" (القدّيس يوحنّا السُّلَّمي)، آمين.